تخطى إلى المحتوى

مجاعة بخارى

ماي 15, 2014

يذكر كثير من أبناء و أحفاد من هاجر من تركستان الفظائع التي ارتكبتها القوات الروسية و البلشفية في حق سكان تلك البلاد، و لكل منهم قصة و حكاية يرويها عن جده أو من عاصر تلك الفترة الشنيعة. مررت بنص مكتوب في كتاب “The Land Beyond the River” أو “أرض ما وراء النهر” للكاتبة مونيكا ويتلوك، و الذي يتحدث عن تركستان و أهلها في تلك الحقبة، و يسرد العديد من القصص منها قصة “داملا هندستاني” و التي نقلتها هنا من قبل. تروي الكاتبة عن المجاعة التي حلت بمدينة بخارى و ما حولها من مدن تركستان، بسبب السياسات الزراعية التي اتخذتها الحكومة الشيوعية، على لسان أهل المنطقة، سأحاول ترجمة ما ورد في هذا الكتاب في السطور التالية:

أطلقت قيادة الثورة البلشفية عام ١٩٢٨/٩ الخطة الخمسية تحت عناوين براقة، “ثورة أخرى” كما زعم ستالين و قال “سنحقق تنمية مئة عام في عشر سنين”. و سريعاً بدأ تنفيذ الخطة التي ما لبثت قليلاً حتى اشتدت وطأتها على تركستان، فقد الكثير من التجار و الصناع أعمالهم، و أغلقت مصانع الحرير و الورق المشهورة في قوقند و بنيت محلها مصانع صغيرة، أما في بخارى فلم يعد هناك زبائن عند الحرفيين من النجارين و البنائين و الدباغين و الصاغة. كما لم تكن هناك بضائع لينقلها أصحاب المراكب في نهر أمو “جيحون”، يقول أحد كبار السن من بخارى “الفرق بين العهد السوڤييتي و ما قبله أننا كنا نصنع الأشياء، كان الرجل حداداً، أو جواهرجياً، فيتبع الابن والده في صنعته، حتى أتى السوڤييت فحولونا إلى مزارعين أو عمال في المصانع.

أرسلت الحكومة السوڤييتية “خبراء” زراعيين إلى مختلف النواحي، و كانت مهمتهم إنشاء “كولخوز” و “سوڤخوز” و هي مزارع مملوكة للدولة لتكون العمود الفقري للاقتصاد السوڤييتي، و كان معظم هؤلاء من الروس و الأوكرانيين و بعض التتار، كانت خبراتهم محدودة و تدريبهم قليلاً، هذا إن كانوا قد تلقوا بعض التدريب، انتقلوا من مناطق الشمال الباردة إلى صحاري تركستان و التي كان يزرع فيها بعض الشعير و الشمام، و لم يعرفوا كيف يتصرفون مع هذه البيئة المختلفة عن بيئتهم، كل ذلك كان تحت مسؤليتهم بعيداً عن خبرة أهل المنطقة الذين أرسل الروس من لم يرق لهم منهم إلى معتقلات سيبيريا ليعملوا كالعبيد، أو من هاجر منهم إلى أفغانستان و أبعد من ذلك.

لم يكن أمام الخبراء سوى إعادة تخطيط تلك القرى و المزارع بالأسلوب الروسي حيث كان يظن بعضهم حقاً أنهم حملة التطور و التقدم لهذا الشعب الذي اعتبروه رجعياً، قاموا بإزالة الأسقف عن بعض الأزقة المظللة “ليدخل الضوء” في ظل حرارة تقارب الخمسين، و اتخذوا لأنفسهم مكاتب ذات نوافذ غير مظللة. يروي قادر بابا و الذي كان يسكن إحدى قرى خوارزم “أتى السوڤييت و صادروا أرضنا و خيولنا و أبقارنا بالقوة، هدموا القرية بمساجدها السبعة، و أنشؤوا شارعاً بنوا البيوت المتلاصقة على أطرافه، و أسموها “كولخوز” و أمرونا بالذهاب إليها و توحيد أراضينا، لم نكن نعرف ماذا يقصدون بتوحيد أراضينا، من رفض تلك الأوامر اعتقلوه، و في خلال سنة كان الجميع منصاعين لأوامرهم”.

كانت كل تلك الأوامر قابلة للتنفيذ من غير الحاجة إلى عصيان مدني، حتى أتى الأمر للرجال بنزع الحجاب، المصنوع من شعر الخيل، عن وجوه نسائهم. و كانت النسوة يبقين في البيت و يقمن بشؤون أسرهن و رعاية الأبناء. أجبرت النساء على الخروج و العمل في الحقول و المصانع و بذلك أصبحن أول جيل من النساء يحملن عملين على عاتقهن، العمل في المصنع و العمل في البيت. كان خلع الحجاب صادماً لأهالي تلك القرى، فحمل بعضهم العصي و هاجموا المسؤولين السوڤييت، و لكن تلك المقاومة لم تدم طويلاً.

تذكر السيدة “إكرامة” و هي ابنة لكاتب المحكمة في شهر سبز، أن صديقاً لزوجها أتى للعشاء يوماً و قد عينه الروس رئيساً للشرطة، ثم أتى بعد ذلك بيومين متهماً زوجها بأنه عدو للثورة و اعتقله ليرسله للعمل في “القولاق” بسيبيريا. و بعد ذلك اختطف السيدة إكرامة و أقنعها بأنه أصبح زوجاً لها. قصتها هي واحدة من ملايين القصص التي لم تسجل، كان عدد من أرسلوا للعمل في سيبيريا حوالي أربعين ألفاً من التركستانيين الذين اتهموا بالعداوة للدولة و ممارسة الطبقية، و بلغ عدد المنفيين من داخل الاتحاد السوڤييتي إلى ستة ملايين شخص أرسلوا للعمل كعبيد في مشاريع تلك الدولة. كما كان هناك عدد ليس باليسير من الأوزبك من بين النصف مليون شخص الذين عملوا في شق قناة من بحيرة أونيگا إلى البحر الأبيض داخل الدائرة القطبية الشمالية، حيث واجه المسلمون منهم صعوبات في صوم رمضان في نهارات الصيف بالقطب الشمالي، حيث لا تغرب الشمس لعدة أيام.

كانت تجربة الكولخوز، أو السياسة الزراعية للاتحاد السوڤييتي، فاشلة بكل المقايس، حيث لم يأت شتاء عام ١٩٣٢ إلا و قد حلت المجاعة بأوكرانيا و جنوب روسيا و من ثم زحفت إلى كازاخستان و بقية تركستان. يذكر محمد جان شكوروڤ، ابن الأديب البخاري المشهور صدر الضياء، ” كان هناك طابورٌ طويلٌ جداً عند المخبز، و كنت في السابعة من عمري، وقفت لمدة طويلة لأتمكن من الحصول على ٤٠٠ گرام من الخبز لعائلتي. و عندما وصلت إلى المقدمة لم يعطوني شيئاً، لأن الخبز كان فقط للعمال (من الحزب الشيوعي) و والديّ لم يكونا منهم”.

كان صدر الضياء يعمل في المكتبة قبل الاحتلال الشيوعي، و لكنه فقد عمله هناك بعد دخول السوڤييت لبخارى، فانزوى في بيته يقرأ و يؤلف، يكمل محمد جان “كنا نفطر على الشاي الأسود صباحاً، و في المساء كنا نأكل پيابا ” بصل و ملح و ماء و زيت”، كنا نأكل أحياناً بعضاً من العدس لرخصه”. كان هذا التحول شنيعاً بعد أن كانت بخارى مركزاً للتجارة. “أتذكر البيوت الخاوية، كان نصف المدينة مهجوراً، باع الناس منازلهم و هربوا، إلى الجبال و أفغانستان، إلى أي مكان كانوا يستطيعون الهروب إليه”

لم تقتصر الحالة على المجاعة، فقد بدأ الروس بمصادرة ممتلكات من تبقى من الأهالي، بل كما يذكر محمد جان أنهم انتزعوا الشواهد الرخامية من على المقابر ليستخدموها في تعبيد الطرق. و يذكر أيضاً مصادرة الذهب من قبل رجال متوشحين بالسواد، يدورون من بيت لبيت ليأخذوا الذهب “لبناء المصانع”، و يذكر أنهم أتوا لعمته و انتزعوا منها أساورها و سلاسلها و جمعوها في مفرش الطاولة، طلبت منهم إيصالاً بقيمة الذهب، لكنهم لم يعطوها شيئاً.

كانت الحال أسوأ في القرى منها في المدن الرئيسية، تذكر السيدة إكرامة التي تسكن شهر سبز أن الحكومة صادرت كل الحدائق المنزلية و التي يعتمد عليها السكان في توفير غذائهم و اعتبرتها الحكومة “رفاهية زائدة”. و بغض النظر عن وظيفة زوجها كرئيس للشرطة، فإن ذلك لم يكن كافياً لها أو مانعاً لسد حاجتها، فكانت تنزل للسوق للعمل، تقول السيدة إكرامة “كل يوم قبل البدء في العمل كنا نحمل الجثث التي نجدها في الشارع، عشرة أو خمسة عشر جثة كل يوم، غالباً ما كانوا من الأطفال الذين تخلت عنهن أمهاتهم بعد أن خارت قواهن، كان الربيع أسوأ من الشتاء، بدأ الناس في أكل الجذور و البراعم، مما أدى لوفاة البعض. رأيت جثة فوق شجرة في إحدى الأيام، يبدو أنه كان يتسلق الشجرة ليأكل أوراقها”.

لم تقتصر المجاعة على الناس فقط إنما على الحيوانات أيضا، تقول السيدة إكرامة “كنت أسير يوماً و في يدي قطعة لحم، جاء نسر من السماء و خطفها من يدي”. تكمل قائلة “كانت الحيوانات تتصرف بشكل غريب بحثاً عن الأكل، سمعت صوتاً على الباب ذات ليلة، فظننت أنه كلب أو قط جائع يريد أن يبحث عن الطعام في المنزل، صمت الصوت في الصباح، ففتحت الباب لأرى رجلاً قد توفي من الجوع”. رزقت السيدة إكرامة بطفل في وقت المجاعة و لم تجد ما تطعمه سوى الجراد المطحون. تذكر سيدة أخرى من طاشكند أنها توجهت للجبال فلم تجد ما تطعم به أبناءها سوى سلحفاة برية، كسرت صدفتها و استخرجت منها اللحم. كان الناس يسيرون ثم يزحفون و يلقون بأنفسهم قرب السكة الحديدية على أمل أن يرمي الركاب لهم بقطعة خبز.

من فظائع الذكريات لهذه المجاعة تذكر إحدى السيدات صوت طرق على بابها، لتجد مجموعة من الرجال يطلبون منها فأساً لتقطيع حمار ميت وجدوه على الطريق ليقتسموا لحمه. لم يعلم أحد أن هذه المجاعة عمت جميع نواحي الاتحاد السوڤييتي البائد سوى بعد موت ستالين عام ١٩٥٣. قتلت المجاعة سبعة ملايين شخص على مستوى الدولة، و هي إحدى أسوأ الكوارث المسجلة في التاريخ. لم تنتشر الأخبار في ذلك الوقت لحرص الحكومة السوڤييتية على التكتيم، كان ممنوعاً على الصحف الكتابة عنها، و لم تصل أي مساعدات خارجية للداخل لأن أي ذكر لكلمة “مجاعة” كان عقابها ثلاث إلى خمس سنين في السجن، أو بكلمة أخرى: الموت المحتوم.

أصبحت المجاعة مقياساً للعديد من الناس للحياة الجيدة، كان توفر الدقيق و الزيت هو الوضع المثالي للجيلين القادمين و ما بعدهما، كما كانت المجاعة منظاراً يرى الناس به رفاهية عيشهم، حيث لم يعد هناك شيء أسوأ منها، و لم يعد أي ثمن غالياً لشراء حياة هادئة يتوفر فيها الطعام لسد الجوع، و لم تكن هناك سلطة تستحق الاحترام سوى تلك التي توفر الغذاء و السلام.

رئيس وزراء سوريا: السيد نصوحي البخاري

ديسمبر 26, 2013

هذه مقالة بقلم الكاتب ياسر مرزوق من صحيفة “سوريتنا” يتكلم فيها عن رئيس الوزراء السوري السابق نصوحي البخاري و الذي تقلد عدة مناصب مختلفة منها وزارة التعليم و الدفاع و الداخلية، أترككم مع المقالة.

ولد السيد نصوحي البخاري في دمشق عام 1881، والده العلامة ” سليم البخاري ” والذي كان رئيساً للعلماء المسلمين في دمشق، عن جريدة “العهد الجديد” البيروتية وعن عددها الصادر بتاريخ 25 تشرين أول سنة 1928 ننقل: ” طويت صباح أمس صفحة ماجدة وضَّاءة من صفحات العلم والوطنية والإخلاص بوفاة سماحة العلامة الجليل الشيخ سليم أفندي البخاري والد الشهيد البطل المرحوم جلال الدين البخاري وصاحب المعالي الوطني الكريم نصوحي بك البخاري وزير الزراعة والتجارة ووزير المعارف سابقًا والشيخ سليم أفندي البخاري علامة جليل من كبار علماء المسلمين، له ولعه الشديد بجمع آثار السلف الصالح واقتفاء أثر المخطوطات النادرة، والحرص عليها حرص البخيل على درهمه، كما أنه كان مثال النزاهة والعفة وطهارة اليد والذيل وصورة الأخلاق الفاضلة الكريمة، وهو أحد أركان النهضتين الوطنية والعلمية “، شقيقه ” جلال الدين البخاري “ولناهنا أن ننقل عن مذكرات السيد “يوسف الحكيم ” الجزء الأول صفحة /332/ ” نصوحي البخاري هو شقيق جلال البخاري الذي حوكم في عاليه وأُعدم في بيروت يوم 6/5/1916 مع الشهداء الوطنيين المطالبين باستقلال سورية. وابن العلامة سليم البخاري رئيس علماء دمشق الذي حوكم أمام الديوان العرفي العثماني في عاليه ونُفي إلى بروسية. وكان عضواً مؤسساً للجمعية الخيرية بدمشق، وهي جمعية إسلامية خيرية مارست العمل السياسي، أسسها الشيخ طاهر الجزائري في أواخر القرن التاسع عشر، ودعت لإعادة العمل بالدستور العثماني الذي كان معطلاً آنذاك، وجعل الحكم في الدولة العثمانية والبلاد العربية حكماً يعتمد على الشورى “.

تلقى البخاري علومه في المدرسة الاعدادية العسكرية في دمشق، ثم انتقل إلى المدرسة الحربية في اسطنبول ثم مدرسة أركان الحرب العثمانية والتي تخرج منها برتبة “رئيس”، وشارك كقائد عسكري في حرب البلقان، وفي الحرب العالمية الأولى وأسر خلالها وأرسل إلى سيبيريا حيث بقي هناك لمدة تسعة أشهر وتمكن من الهرب والعودة إلى الدولة العثمانية في مطلع عام 1916، وشارك برتبة عقيد في حرب القفقاس، وحرب غزة، وتولى قيادة الفرقة السابعة حتى تم انسحاب القوات العثمانية من سورية. وتولى في عهد الملك فيصل الأول قيادة فيلق حلب برتبة زعيم، وتولى رئاسة ديوان الشورى الحربي الثاني، وعين معتمداً لحكومة الملك فيصل الأول لدى مصر في أوائل عام 1920، ومن ثم مديراً عاماً للشؤون الحربية في أواخر العام نفسه في حكومة ” حقي العظم ” واستمر في هذا المنصب حتّى عام 1921، في العام 1922 عين مديراً للمعارف في حكومة دمشق، ووزيراً للمعارف في حكومة ” الداماد أحمد نامي ” الثانية عام 1926، ثم وزيراً للزراعة والتجارة في نفس الحكومة.

عام  1919 تزوج البخاري فتاة من الأسر الدمشقية العريقة وهي “رفيقة بنت ممدوح بك العظم” والتي أضحت رائدةً من رواد حركة “تحرير المرأة” التي نمت بشدة في سوريا، وأصبحت أكثر جرأة على المواجهة، خاصةً بعد أن تولت قيادتها في دمشق السيدة رفيقة زوجة السيد نصوحي البخاري، بمشاركة زوجات عدد من السياسيين والبرلمانيين الآخرين متخذات من “جمعية نقطة الحليب” واجهة جذابة لحركتهن.

عام 1939 تم تكليفه من قبل الرئيس الأتاسي بتشكيل الحكومة، وقد أتى هذا التكليف على أثر مماطلة فرنسا في تنفيذ بنود معاهدة 1936، ويقين الرئيس الأتاسي بحاجته لرئيس وزارة حيادي من خارج صفوف الكتلة الوطنية وقد تعرض هاشم الأتاسي للضغط، بعد تكليف نصوح البخاري بتشكيل الوزارة من قبل بعض أصدقائه إذ طالب وفد من نواب الكتلة الوطنية هاشم الأتاسي بالالتزام بقرارات الكتلة الوطنية والاستمرار بالتصعيد ضد الفرنسيين. ولكن الأتاسـي أصدر مرسوماً بتشكيل وزارة البخاري في 8 نيسان 1939 أي بعد 20 يوماً من استقالة حكومة لطفي الحفار، كان معظم وزرائها من المستقلَّين، ولم تكن وزارة ذات طابع حزبي، ومع ذلك لم تستطع حلَّ الأزمة بل استمرت الأزمة السياسية في سورية، وقد انتقد عبد الرحمن الكيالي الوزارة الجديدة في كلمته في المجلس النيابي يوم 21 نيسان 1939، وانتقد بشدة أيضاً موقف الأتاسي وقال: “كان القصر، على ما نعلم معقل الوطنية، وكانت سلطته تمثل الخير والغيرة والاحترام والآن ويا للأسف غدا معقل الرجعية، تمرح فيه ذئاب الاستعمار.. “ونتيجة لهذه الانتقادات الشديدة التي تعرَّض لها الأتاسي ورئيس وزرائه من قبل المعارضين داخل المجلس النيابي وخارجه ولا سيما بعد تهرب الوزارة من إلقاء بيانها وعدم حصول رئيس الوزراء على وعد من الفرنسيين بالتصديق على المعاهدة أصدر هاشم الأتاسي قراراً، في 19 نيسان 1939، بتأجيل اجتماع المجلس النيابي لمدة شهر، اعتباراً من 20 نيسان الى 20 أيار 1939 وبالتالي تأجيل عرض البيان الوزاري.

في 12 أيار من العام نفسه أصدر المفوض السامي بياناً قصيراً أُذيع من دار الإذاعة حدد فيه أسس السياسة الجديدة التي سيسير عليها، وتقوم على إدخال بعض التعديلات على مسودة معاهدة عام 1936، التي ستبرم بعد الدخول في مفاوضات بين الجانبين لعقد معاهدة جديدة، واجتمع مع الأتاسي وجرت بينهما مشاورات، تمسَّكَ الأتاسي فيها بالقواعد التي نصت عليها معاهدة عام 1936، ولكنَّ المفوض السامي كان يماطل، متعللاً بالحالة الدولية التي تنذر بحدوث حرب في أوربا ولذلك فأن فرنسا لا تستطيع إلا أن تأخذ ذلك بعين الاعتبار، وتضع الخطط على أساسها، ولهذا فإنّها لا تستطيع التقيد بالكثير من شروط المعاهدة. وانتهى الاجتماع دون التوصل الى الاتفاق بين الجانبين، بالتوازي استمرت فرنسا في تشجيع النعرات الانفصالية في سورية،ولاسيَّما في جبل الدروز الذي عاد سكانه الى رفع علمهم الخاص، فاجتمع رئيس الوزراء السوري مع المفوض السامي للتباحث معه بشأن السياسة الفرنسية، ولم يتوصل الى نتيجة بسبب إصرار الحكومة السورية على رفض تصريح” بيو” الجديد الذي يدعو إلى عقد معاهدة جديدة لمواصلة التعاون بين الطرفين أو أن تستقيل الوزارة،   ونتيجةً لتفاقم الحالة، قدم نصوحي البخاري استقالته في 15 أيار 1939 إلى رئيس الجمهورية، بسبب إصرار الفرنسيين على إعادة الحكم الذاتي إلى منطقتي العلويين والدروز، وذلك قبل أن تقدم الوزارة منهاجها إلى المجلس النيابي السوري. وقد طلب هاشم الأتاسي من الوزارة المستقيلة أن تستمر في عملها وكالة حتى تُؤَلَّفَ وزارة جديدة. وعمد الرئيس الأتاسي إلى التشاور مع “عطا الأيوبي ” لتشكيل الحكومة،وكان لحوادث الجزيرة واللاذقية دورٌ كبيرٌ في فشل عطا الأيوبي في تشكيل الوزارة، حيث هاجم فريق من الانفصاليين دوائر الدولة، وأنزلوا الأعلام السورية عنها، ورفعوا الأعلام الخاصة بالجزيرة، وطردوا الموظفين الحكوميين من المنطقة. ونتيجة لتعقد الحالة السياسية، ومماطلة الفرنسيين وفشل هاشم الأتاسي في تأليف وزارة جديدة أخذ يفكر في تقديم استقالته من رئاسة الجمهورية، تعبيراً عن غضبه على موقف الفرنسيين، وبدأت الأحاديث تظهر من جديد عن قيام النظام الملكي في سورية بعد فشل النظام البرلماني الجمهوري، وعندما سئل رئيس الوزراء المستقيل عن رأيه في استقالة هاشم الأتاسي المحتملة قال: ” أنا اعتقد أَنَّ الحالة الحاضرة على خطورتها لا توجب على رئيس الجمهورية الاستقالة من منصبه مهما كانت الظروف، فالاستشارات في سبيل تشكيل وزارة جديدة مستمرة بين الرئيس وساسة البلاد.. وأما ما يتعلق باستقالة رئيس الجمهورية، ومعناها نسف الدور الوطني الدستوري الحالي برمته، فهو ليس من المصلحة الوطنية في شيء”.

عام 1943 فاز البخاري في الانتخابات النيابية عن دمشق وفي 19 آب من العام نفسه تم تعيينه وزيراً للمعارف والدفاع الوطني في حكومة “سعد الله الجابري”، وعلى الرغم من خلفيته العسكرية إلا أن البخاري كان فاعلاً في الحراك العلمي والثقافي في دمشق،وداعماً للحركة النسوية التي تزعمتها زوجته، فقد كان داعماً للنشاط الاجتماعي والثقافي للرابطة العربية وغيرها من الجمعيات والمنتديات التي كانت دمشق تذخر بها، وفي صيف عام 1944 شارك في المهرجان الألفي للفيلسوف العربي أبي العلاء المعري بصفته وزيراً للمعارف، بحضور رئيس الجمهورية ومشاركة: طه حسين، محمد كرد علي، مهدي الجواهري، بدوي الجبل….. ‏وقد افتتح البخاري المهرجان بكلمةٍ بليغة كان مطلعها “ولو أني جبتُ الخُلد فرداً لما أجبت بالخلد انفراداً ‏ فلا هطلت عليّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلاد ‏”.

مع اتساع النشاط الحزبي في الحياة السياسية في سوريا بعد الاستقلال وتراجع دور المستقلين، اعتزل دولة الرئيس البخاري السياسة، وتوفي في دمشق عام 1961 ودفن في مقبرة العائلة.

Image

تركستان و الترك في رحلة ابن بطوطة

ديسمبر 2, 2013

يعد ابن بطوطة من أشهر الرحالة المسلمين و العالميين، فقد سافر ابن بطوطة في معظم العالم المعروف في زمنه، غادر الرحالة المغربي بلده فزار مصر و الشام و الحجاز و العراق و فارس و .مدن الخليج العربي و آسيا الصغرى “تركيا” و شبه جزيرة القرم و مملكة السلطان محمد أوزبك و تركستان و الهند و سريلانكا و المالديڤ و بلاد جاوة و الصين و الأندلس و بعض الدول الأفريقية، و قد أجاد ابن بطوطة اللغتين الفارسية و التركية إلى جانب لغته العربية، و قد أورد بعض المحادثات بالتركية بينه و بين بعض من زارهم، و ما يهمنا هنا في رحلته هو حال الترك و تركستان في ذلك الوقت. أما لماذا فصلت فقلت الترك و تركستان، فلأن الترك كانوا منتشرين في داخل تركستان و خارجها كحكام و محكومين، و سأحاول بإذن الله حصر أبرز ما كتب عنهم في هذه التدوينة.

Image
 رحلة ابن بطوطة بين عامي ١٣٣٢-١٣٤٦م. “ويكيبديا”

يذكر ابن بطوطة في رحلته من حلب إلى جبلة عدة أسماء تركية، حيث مر على “حصن الشغور” و أميره “سيف الدين ألطنطاش” و اسمه الأخير تركي معناه “الحجر الذهبي”، ثم يأتي ذكر الأمير “قراسنقور” ثم الدمرطاش ابن السلطان أبو سعيد حاكم العراق. و في مدينة جبلة بسوريا اليوم يمر ابن بطوطة بقبر الولي الصالح البخاري “إبراهيم ابن أدهم” .

أما في العراق فيذكر ابن بطوطة أنه التقى بالشيخ أحمد “كوجك” حفيد ولي الله أبي العباس الرفاعي، و لفظة “كوجك” تعني الصغير، و يبدو ذلك لأن أبا العباس الرفاعي اسمه أحمد، و حفيده اسمه أحمد، فتسمى بأحمد كوجك، أي أحمد الصغير. و بعد العراق مر ابن بطوطة على فارس و في مدينة “إيذج” دخل على ملكها السلطان “أتابك أفراسياب بن السلطان أتابك أحمد” و كما يذكر فإن أتابك هو لقب لمن تولى شؤون تلك البلاد، و بلا شك فهي لفظة تركية تجمع بين “أتا” أي الأب، و “بيك” أي السيد. و يصف ابن بطوطة بطيخ أصفهان من بلاد فارس بأنه عجيب الشأن و لا مثيل له في الدنيا إلا ما كان من بطيخ بخارى و خوارزم.

أما في شيراز فقد كان سلطانها وقت مرور ابن بطوطة عليها تركياً هو أبو إسحاق بن محمد شاه ينجو، و ذكر أن له جيشاً ينيف على خمسين ألفاً من الترك و الأعاجم. و والد أبي إسحاق هو محمد شاه ينجو و قد كان والياً على شيراز من قبل ملك العراق، و والدته اسمها طاش خاتون. و قد مر ابن بطوطة بعد ذلك في طريقه على بغداد و كان ملكها هو السلطان الجليل أبو سعيد بهادر خان بن السلطان الجليل محمد خدابنده و هو الذي أسلم من ملوك التتر حسب ابن بطوطة. و محمد خدابنده هو سلطان تتري ولد مسيحياً أسمته أمه نيقولا ثم اعتنق البوذية و من بعدها الإسلام على المذهب السني ثم اعتنق المذهب الشيعي بتأثير من الحلي. أما ابنه أبو سعيد فقد لقب بـ”بهادر” و أصله في المنغولية “بغاتر” أي “البطل”. يقول عنه ابن بطوطة “و كان ملكاً فاضلاً كريماً، ملك و هو صغير، و رأيته ببغداد و هو شامل، أجمل خلق الله صورة، لا نبات بعارضيه.” و قد تزوج أبو سعيد بزوجة ابن عمته الشيخ حسن بعد أن طلقها و اسمها بغداد خاتون، و في ذلك يقول “و النساء لدى الأتراك و التتر لهن حظ عظيم، و هم إذا كتبوا أمراً يقولون فيه: “عن أمر االسلطان و الخواتين”، و لكل خاتون الكثير من البلاد و الولايات  المجابي العظيمة، و إذا سافرت مع السلطان تكون في محلة على حدة”. و بعد موت السلطان أبي سعيد تغلب على ملكه كثيرون منهم الشيخ حسن ابن عمته و حسن خواجة بن الدمرطاش بن الجوبان، و الأمير طغيتمور، و قطب الدين يمتهن، و أفراسياب أتابك، و يظهر من أساميهم جميعاً أنهم ترك، فقد حكموا بلاداً منها هرمز و كيش و القطيف و البحرين.

ينتقل بعد ذلك ابن بطوطة إلى آسيا الصغرى أو ما تسمى بتركيا اليوم، و يقول في مدينة العلاية في أول رحلته هناك “و قد جمع الله ما تفرق من المحاسن في البلاد، فأهله أجمل الناس صوراً و أنظفهم ملابس و أطيبهم مطاعم و أكثر خلق الله شفقة، و لذا يقال البركة في الشام و الشفقة في الروم”، و يقصد بالروم أهل تركيا لأن أهلها من قبل كانوا الروم و اليونان. و يكمل ابن بطوطة بقوله “و كنا متى نزلنا بهذه البلاد زاوية أو داراً يتفقد أحوالنا جيراننا من الرجال و النساء، و هن لا يحتجبن. فإذا سافرنا عنهم ودعونا كأنهم أقاربنا و أهلنا، ترى النساء باكيات لفراقنا متأسفات”.  أما عن دينهم و مذهبهم فيقول “و جميع أهل هذه البلاد على مذهب الإمامأبي حنيفة رضي الله عنه، مقيمين على السنة لا قدري فيهم و لا رافض و لا معتزلي و لا خارجي و لا مبتدع، و تلك فضيلة خصهم الله تعالى بها، إلا أنهم يأكلون الحشيش و لا يعيبون ذلك.”

و من ما ذكر ابن بطوطة من محاسن أهل آسيا الصغرى التنظيم المعروف بالأخية، من لفظ أخ، حيث توجد جماعة في كل بلدة أو قرية من الأخية تقوم على إكرام الضيف و قضاء حوائجه، حيث أن لهم زوايا معروفة ينزلون فيها الضيف و يقومون على شؤونه، بل و يجالسونه و يؤنسونه  و ينفقون عليه من مالهم الخاص و لو كان الواحد فيهم رقيق الحال، و يقول فيهم “و هم بجميع البلاد التركمانية الرومية في كل بلد و مدينة و قرية، و لا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتمالاً بالغرباء من الناس و أسرع إلى إطعام الطعام و قضاء الحوائج و الأخذ على أيدي الظلمة و قتل الشرط و من ألحق بهم من أهل الشر”. و هؤلاء الأخية يرون إكرام الضيف واجباً عليهم يأخذونه و لو على رقابهم، كما حصل لابن بطوطة في مدينة لاذق حيث تقابلت مجموعتان أخذوا بأعنة خيل ابن بطوطة و أصحابه و أرادت كل مجموعة الانفراد بالضيافة حتى سل بعضهم السكاكين على بعض، و لم يكن ابن بطوطة يفهم التركية بعد، فحسبهم من قطاع الطرق حتى يسر الله له من يترجم له فعرق أنهم فريقان من الأخية، كل يريد أن تكون له شرف الضيافة، فوقع بينهم الصلح على القرعة.

و من أخبار ابن بطوطة في آسيا الصغرى ملاقاته في مدينة سيواس لفرقة من الأخية أسماهم “أصحاب الفتى بجقجي”، و كما يقول ابن بطوطة “بجق بالتركية السكين، و هذا منسوب إليه”. أما في مدينة بركي فقد التقى بقاضيها و اسمه “عز الدين فرشتي”، و قد لقب بفرشتي “أي الملك” لدينه و عفافه و فضله، و لهذه التسمية مثيل بين التركستانيين فيذكر الشيخ منصور البخاري في كتابه “علماء ما وراء النهر المهاجرين للحرمين” في ترجمته للشيخ أمين الله بن حبيب الله البخاري المدني ما نصه “كانت له رحمه الله صفات حسنة كثيرة من كمال الأخلاق و خسن الخصال و لهذا لقبه البخاريون بفرشته مخدوم لطهارة نفسه و جميل أخلاقه و فعاله”. و يذكر ابن بطوطة وصوله إلى مدينة “برغمة” و سلطانها “يخشي خان” و يشرح ذلك بقوله ” و خان عندهم هو السلطان، و يخشي معناه جيد”.

و قد زار ابن بطوطة في رحلته مدينة برصى أو “بورصة” في عهد السلطان أورخان، و هو أحد أجداد بني عثمان. يقول عنها ابن بطوطة “مدينة كبيرة عظيمة، حسنة الأسواق فسيحة الشوارع، تحفها البساتين من جميع جهاتها و العيون الجارية، و بخارجها نهر شديد الحرارة يصب في بركة عظيمة.”، أما عن سلطانها فيقول “و سلطان برصى هو اختيار الدين أرخان بك بن السلطان عثمان جوق، و جوق تفسيره بالتركية الصغير، و هذا السلطان أكبر ملوك التركمان و أكثرهم مالاً و بلاداً و عسكر”، و للتذكير فإن ابن بطوطة جال في بلاد الروم “أو ما يعرف اليوم بتركيا” في عصر الدويلات التركمانية كما هو واضح من السياق، و في الأسفل خريطة توضح ذلك.

الدويلات التركمانية في الأناضول. "ويكيبيديا"
الدويلات التركمانية في الأناضول. “ويكيبيديا”

و من القصص التي يوردها ابن بطوطة في رحلته زيارته لمدينة “مطرني”، و إرساله خادميه إلى السوق ليشتريا له السمن و التبن، فأتى الذي أرسله لشراء السمن بالتبن، و قال أن التبن يقال له “سمن” بالتركية و السمن عندهم يقال له”رغان”، و بالرجوع إلى المعجم “الإنگليزي-الأوزبكي” لم أجد ما يؤيد أن “سمن” معناه التبن، غير أن هنالك كلمة تكتب “saman”، و هي ذات أصل فارسي، و هي اسم لواحدة من سلالات الخيل، فربما فهم البائع أن المشتري كان يريد طعاماً لخيله فباعه التبن، و اختلط المعنى على ابن بطوطة،  و لا أعرف مدى صحة هذا الكلام، و ليصححني الإخوة في التعليقات إن كان ما قاله ابن بطوطة صحيحاً.

يتبع إن شاء الله مع دخول ابن بطوطة لمملكة السلطان محمد أوزبك و رحلته في تركستان.

حوار بين مدرس بخاري و أوروبي

سبتمبر 7, 2013

سردت في المقالة السابقة بعضاً من سيرة الأديب و المعلم المجدد الأوزبكي عبدالرؤوف فطرت و ذكرت أن من بين أعماله حواراً افتراضياً بين أوروبي له معرفة جيدة بالإسلام و مدرس بخاري من أهل الطريقة القديمة في التعليم، و عثرت على ترجمة باللغة الإنگليزية لهذا العمل و أحببت أن أترجمها بالعربية و أضعها هنا، لكن للأسف لم أوفق في إكمال الترجمة لطولها أولاً و لخشيتي من أن أنقل معنى خاطئاً للقارئين و إدخالهم في حالة من اللخبطة لأن النص المكتوب له خلفيات يجب أن تفهم لكي يستطيع القاريء فهم الموضوع كاملاً، و لذلك آثرت أن أطرح الملف للجميع لقرائته باللغة الإنگليزية كما وجدته في موقع جامعة إنديانا على ما أظن. أترككم مع رابطالتحميل.

عبدالرؤوف فطرت

ماي 9, 2013

كان عبدالرؤوف رشيد أوغلي فطرت الذي ولد عام ١٨٨٦ علامة فارقة في تاريخ التركستانيين الذين درسوا في اسطنبول، حيث قضى الفترة ما بين عامي ١٩٠٩ و صيف ١٩١٤ هناك، فطرت هو ابن تاجر غني من بخارى، تجول في أرجاء الامبراطورية العثمانية، و إيران، و تركستان الشرقية، درس في مدرسة مير عرب الشهيرة في بخارى، منحته جمعية “تربية الأطفال” بعثة للدراسة في اسطنبول، أثرت كثيراً في حياته الخاصة و في تركستان عموماً حينما عاد إليها،  و رغم ذلك لم تسجل الكثير من التفاصيل عن رحلته لاسطنبول. و لكن مما يذكر منها أنه نشر أول ثلاث كتب له في تلك الفترة، حقق اثنان منها أصداءاً واسعة هما “مناظرة بين مدرس بخاري و مدرس أوروبي”، و الكتاب الآخر “حكايات مسافر هندي”، كان أول ظهور لفطرت في الصحيفة الإسلامية “حكمت” و الذي كان ناشرها شاهبندرزاده فيليبيلي علي حلمي حيث أدت مشاكله مع جمعية الاتحاد و الترقي إلى إغلاق الصحيفة عدة مرات، و كتب فطرت أيضاً في “الصراط المستقيم” الدورية الإسلامية التي كان يحررها محمد عاكف إرسوي “كاتب النشيد الوطني التركي، و والدته بالمناسبة بخارية الأصل”. التحق عبدالرؤوف في عام ١٩١٤ بمدرسة الواعظين و التي افتتحت في ذلك العام، و كان من ضمن مناهجها التاريخ التركي و كان مدرس تلك المادة يوسف آقچورا مؤسس نظرية القومية التركية، تأثر عبدالرؤوف فطرت في أسلوبه ببعض المهاجرين الإيرانيين في اسطنبول، أبرزهم زين العابدين المراغي، في كتابه “سياحت نامه إبراهيم بيك” أو “مذكرات إبراهيم بيك في السفر”، و يبدو ذلك في أوضح صوره في “حكايات مسافر هندي”. تبدأ حكاية المسافر لدى وصوله لبوابة بخارى ليجدها مقفلة لحلول الظلام، و عند مجادلته مع حارس الباب تأتي عربة تحمل بعض الأرمن و اليهود لتفتح لهم البوابات من غير أي سؤال، بعد دخولهم تفتح البوابات مرة أخرى ليظهر أرمني ينادي أحداً، يتضح لاحقاً أنه كلبه، حيث يدخله معه و يبقى الهندي المسلم منتظراً في الخارج حتى طلوع الفجر ليدخل المدينة و يكتري عربة تقله لنزل، ليواجه زحاماً شديداً في الشوارع الضيقة، حيث يتضح أن السبب وجود عربة أخرى ترفض التحرك للاشيء، غير الكبر في نفس صاحب العربة. يدخل الناس في عراك، وحينها يسأل المسافر سائق العربة: أخي، ألا يوجد أحد من رجال الحاكم هنا ليفك هذا الاختناق؟ يجيبه سائق العربة: و ما لرجال الحاكم و لهذا الاختناق؟

عبدالرؤوف فطرت جالساً بين شخصين غير معرفين.

عبدالرؤوف فطرت جالساً بين شخصين غير معروفين.

و يستمر فطرت في وصف حالة الفوضى و اللامبالاة القائمة في تلك الفترة في شوارع بخارى من خلال عيون الزائر الهندي، و ينتقل الزائر إلى مدينة قارشي حيث يبهر بمهارة الصناع هناك، و يقف عند أحد كبار الحرفيين و يسأله: ما هو رأيك في مستقبل هذه الصناعة؟ يقف المعلم مندهشاً من هذا السؤال محاولاً فهم كنهه، فيعيد المسافر الهندي السؤال بصيغة أخرى: سيدي، هل ستكون حال هذه الصناعة بنفس المستوى و الجودة بعد عشر أو اثنتي عشرة سنة من اليوم؟ يفهم المعلم هذا السؤال، و لكنه لا يخفي دهشته لأن هذا السؤال لم يخطر على باله حتى هذه اللحظة، فيقول له الهندي: سيدي المبجل، عندما يقوم الأوروبيون بأمر ما فإنهم يضعونه نصب أعينهم، و كيف سيتطور في عشرة أو عشرين سنة، و حتى مئة أو مئتي سنة، صناع قارشي مهرة، ألا تفكرون في مستقبل هذه الصنعة؟ يجيب المعلم قائلاً: كانت تجارتنا ممتازة قبل بضع سنين، و لكن حالها اليوم ليس سيئاً جداً، الله أعلم بما سيحدث في المستقبل. فيجيب الهندي: صحيح، لكن هل عملتم أي شيء لضمان تطور هذه الصناعة في العشر سنين القادمة؟ فيجيب المعلم: أمورنا طيبة اليوم، الله أعلم من سيحيا و من سيموت في هذه العشر سنين!.

يستمر فطرت في شرح أهمية التخطيط للمستقبل بالنسبة لبخارى على لسان المسافر الهندي، و يستمر في شرح المصاعب الاقتصادية التي ستواجه بخارى، و يقترح الحلول لها. و ينتقل فطرت بعد ذلك للتحدث عن النظافة و الصحة العامة في بخارى، حيث يسقط المسافر الهندي مريضاً طريح الفراش و يعجز جميع من يدعي الطب من البخاريين عن مداواته، و يطلب المسافر الهندي طبيباً روسياً ينجح في معالجته، وينقل فطرت المحادثة بين المسافر الهندي و الطبيب الروسي عن الحالة الصحية، و التعليم الطبي في بخارى.

لم يسلم التعليم التقليدي في بخارى أيضاً من نقد عبدالرؤوف فطرت، فألف في ذلك “مناظرة بين مدرس بخاري و مدرس أوروبي” حيث يصادف هذا البخاري في طريقه إلى الحج رجلاً أوروبياً له معرفة واسعة بالدين الإسلامي، و شغف في معرفة المزيد عنه، فيسأل المدرس عن التعليم في بخارى و المناهج التي يدرسونها للطلبة هناك، فيشرح المدرس البخاري عن مناهجهم بالتفصيل، فيرد عليه الأوروبي بقوله “لم أتوقع في حياتي أن أسمع مثل هذه الخرافات! يا لها من مضيعة للوقت، يمضي الطالب سبعة و عشرين عاماً من حياته في دراسة تلك المناهج المكررة الضعيفة! متى يتسنى لهم الوقت ليدرسوا ما هو أهم من ذلك كله، التفسير و الحديث و الفقه؟” و لم يأت هذا النقد من فراغ فقد كانت المدارس “أو الكتاتيب” في ذلك الزمان تتبع منهجاً لا هدف له، فيدخل الطالب عند المدرس و يأمره بحفظ نصوص و أشعار بالعربية و الفارسية، لا يفقه الطالب كنهها و يظل يرددها حتى يحفظها، لا توجد فصول دراسية محددة، فيتقدم الطالب في المدرسة حسب اجتهاده الشخصي، و تخلو العملية من أي آلية لتقييم مدى استيعاب الطالب لما درس، هذا عدا عن أن بعض المدرسين الذين يفترض أنهم يدرسون العربية لا يتقنونها أصلاً.

حاول فطرت في ثنايا ذلك الحوار بين البخاري و الأوروبي إيضاح حقيقة أن هذه المدارس لا تقدم شيئاً مخرجاً عن الملة كما كانت حجة معارضيه، و إنما هي طريقة حديثة منظمة، تعطي نتائج أفضل للدارسين فيها، فحينما أورد في ذلك الحوار قول المدرس البخاري: “هذه المدارس الجديدة إنما تحول أطفالنا إلى كفار”، لم يكن يصف قولاً شاذاً أو مبالغاً في الوصف، و إنما كان يصف ما يدور في المجتمع، ففي ديسمبر من عام ١٩١٣ أعلن إمام جامع أولوغ بيك في سمرقند في خطبة الجمعة أن المدارس الحديثة و تعلم الروسية تعارض الشريعة،و أن من يرسل أبناءه إليها هو من الزنادقة. و في عام ١٩١٤ عارض سكان محلة “مداحي” في سمرقند افتتاح مدرسة حديثة معللين ذلك بأنهم لا يريدون مدرسة روسية في حيهم، كما وزعت منشورات في بخارى عام ١٩١٦ تحمل نفس المضمون المعارض.

رد المجددون على تلك الاتهامات بتفوق مناهجهم في تخريج طلاب وطنيين ملمين بشؤون الدين و العلوم الطبيعية. و كان رد فطرت بالتحديد على أن هذه المدارس تخرج كفاراً أن ذلك عكس الواقع تماماً، فهذه المدارس تخرج مسلمين صالحين و مواطنين مخلصين “مؤدب وطن پارواران”، و استقى رده من المنشورات التي وزعت في بخارى، و التي احتوت على أخطاء نحوية و إملائية عديدة فكتب: “فإذا كان التخلف التجاري و الأخلاقي و العلمي و الصناعي غير واضح لكاتبي هذه المنشورات، فهو واضح لغيرهم، فحينما نرى العجائب العلمية في العالم من التلفون و التلگراف أو سكة الحديد،  من المؤسف أنه ليس لدينا أحد يستطيع تعلم أسرارها، فضلاً عن أن خريجي المدارس التقليدية لا يستطيعون كتابة منشور بطريقة صحيحة!”

أدت حركة التجديد إلى بعث الروح القومية في تركستان، و خصوصاً بعد الثورة البلشفية حيث اعتبروها تهديداً مباشراً لمسلمي تركستان فتحولت لغة الخطاب إلى إحياء الروح القومية لدى الكتاب، و من المقالات التي لقت أصداءاً واسعة ذلك المقال الوطني القومي الذي كتبه في صحيفة حريت في يوليو من عام ١٩١٧ “يا طوران العظيمة، يا أرض الأسود! ماذا حل بك؟ ما هذه الأيام السوداء التي غشتك؟ ماذا حل بالترك العظماء الذين حكموا العالم يوماً ما؟ لماذا رحلوا؟ لماذا ذهبوا؟” ، و لم يقتصر هذا التأثير على مقالات فطرت فقط، و إنما بدأ يستعمل لغة تركية خالصة احتاج إلى أن يشرح مفرداتها لقارئه، بعد أن كانت جل كتابته بالفارسية، و في عام ١٩١٨ أصدرت في طاشكند صحيفة اسمها “ترك سوزي” أو “الكلمة التركية”  عن طريق منظمة اسمها “ترك أورتاقليغي” أو “الصداقة التركية”. كما قاد فطرت بعض الجهود لإحياء اللغة الچغطائية بين أدباء حركة التجديد تحت جمعية أسماها “چغطاي گورونگي” أو “الحوار الچغطائي” عملت على تعليم الشباب التركستاني و تثقيفهم بتاريخهم الموثق و تراث اللغة الچغطائية التركية، و كانت هذه الحوارات تتم خارج دائرة القانون السوڤييتي، و الذي عمل على إغلاقها عام ١٩٢٢. و من الجدير ذكره أن الدولة السوڤييتيية قامت بتوجيه تهمة “القومية” أو “معاداة السوڤييتيية” لعبدالرؤوف فطرت بعد أن ألف كتابه “مقتطفات من الأدب التركي القديم” حيث قدم كتاب محمود الكاشغري “ديوان لغات الترك” كموروث شعبي تركي عام، و تضمن كتابه إنكار تقسيم الترك إلى شعوب مختلفة، أما كتابه التالي “مقتطفات من الأدب الأوزبكي” ، و الذي تضمن نصوصاً بالتركية

توقيع عبدالرؤوف فطرت

توقيع عبدالرؤوف فطرت

لعلي شير نوائي و غيره من معاصريه التيموريين فقد لقي معارضة عظيمة كون المنظرين الشيوعيين لم يستسغوا ما فيه من الأدب الصوفي، و التخيلات الدينية،  و روائع سحر الشعر لأديب مثل علي شير نوائي أو حسن باي قرا،

و بالرغم من أن فطرت اتخذ الأوروبي كنموذج للتحضر و التقدم في حواره مع المدرس البخاري، إلا أن ذلك لم يمنعه من صب جام غضبه عليهم بعد تحالف الأوروبيين على اسقاط الدولة العثمانية في مقالة كتبها في صحيفة “شرق سياستي” أو “سياسة الشرق”،  عام ١٩١٩قائلاً  “إلى هذا اليوم، لم يعط الاستعماريون الأوروبيون أي شيء للشرق سوى اللاأخلاقية و الدمار، و بالرغم من أنهم أتو للشرق مدعين بأنهم سيفتتحون مدارس متحضرة، و كليات للإنسانية، و في الحقيقة لم يفتتحوا شيئاً سوى بيوت الخنا و الخمارات، سياسة “الاستعباد و التدمير” الأوروبية حاضرة في جميع نواحي الشرق و العالم الإسلامي، و بلغت آفاقاً جديدة بعد الحرب الأخيرة، احتل البريطانيون كل أراضي العرب و لم يتبق سوى الحجاز، و التي سيبتلعونها قريباً. سينصبون علينا منافقاً منهم يدعي الإسلام، و يجعلونه خليفة يحكم ٣٥٠ مليون مسلم، و سنتحول جميعاً إلى عبيد لهم” و لكن الحل الذي اقترحه فطرت في ذلك الوقت خانه فيما بعد حيث يقول “الحل الوحيد للمسلمين و الشرقيين هو طلب المساعدة من روسيا السوڤييتية، و التي بدأت بمحاربة القوى الاستعمارية، يجب علينا اليوم ترك كل شيء و التركيز على محاربة الإنگليز، و لنفعل ذلك يجب علينا مصادقة كل عدو لهم”.

أما عن المناصب التي تقلدها عبدالرؤوف فطرت فقد تدرج من موظف في سفارة أفغانستان بطاشكند قبيل سقوط إمارة بخارى عام ١٩٢٠، و تنقل بين عدة مناصب وزارية في جمهورية بخارى الشعبية و التي عاشت قصيراً بين عامي ١٩٢١ و ١٩٢٣، كان أبرز أدواره فيها “تاشقي إشلار ناظري” أو وزير الشؤون الخارجية، و كانت توجهاته السياسية مطابقة لتوجهات إسماعيل بي گاسپرالي المصلح الشهير من تتار القرم، و قد تولى فطرت وزارة التعليم أيضاً في عشرينيات القرن الفائت، و لأن الساسة السوڤييتيين استنتجوا أن فطرت لم يكن ليسلم عقله لهم و لمبادئهم فقد عملوا على إبعاده من تلك المناصب الوزارية واحدة تلو الأخرى، و طرد نهائيا من جمهورية بخارى الشعبية، و لم يكن فطرت وحده هو الذي أبعد من المناصب السياسية في تلك الفترة فقد أبعد معه عدة مثقفين عملوا على بناء صورة مثالية واسعة الأفق لآسيا الوسطى، و يمكن القراءة من كتابات عبدالرؤوف فطرت و عبدالله أولاني أنها كانت صورة حرة و مستقلة لبخارى و خوارزم و تركستان عموماً، و هو ما أخرجهم من بين كتبهم إلى العمل السياسي، لم ينج عبدالرؤوف فطرت من حملة التصفيات التي شنها ستالين في ثلاثينيات القرن العشرين حيث كان على رأس قائمة بالمثقفين الوطنيين التركستانيين صدر في حقهم حكم بالإعدام عام ١٩٣٨.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر

1. Khalid, Adeeb. The Politics of Muslim Cultural Reform: Jadidism in Central Asia. Berkeley: University of California, 1998. Print.

2. Allworth, Edward. The Modern Uzbeks: From the Fourteenth Century to the Present : A Cultural History. Stanford, CA: Hoover Institution, Stanford University, 1990. Print.

الأوزبك في تركيا و العلاقات الأوزبكية التركية قديماً و حديثاً

أفريل 23, 2013

 

الموضوع التالي هو عبارة عن اختصار لورقة بحث قدمها الدكتور أكرم گولشن من كلية الإلهيات بجامعة سقاريا قي تركيا و ذك في المؤتمر الدولي الذي أقيم في أوزبكستان بمناسبة اختيار طاشكند عاصمة للثقافة الإسلامية عام ٢٠٠٧.

بدأت أول علاقة سياسية بين العثمانيين و الأوزبك في عهد السلطان سليم الأول في القرن السادس عشر، و لم تكن تلك هي البداية الأولى بين الترك في الشرق و الترك في الغرب، فقد كانتا يوماً تحت راية واحدة في عهد السلجوقيين الذين امتدت دولتهم من تركستان شرقاً و حتى غرب الأناضول، و لم يتمزق هذا الاتحاد حتى سيطرة المغول على المنطقة، حيث اجتمع الترك في الأناضول حول السلاجقة ثم الدولة العثمانية في القرن الثالث عشر الميلادي.

و يمكن تأريخ أول اتصال بين الأوزبك و العثمانيين إلى عهد السلطان بايزيد الثاني، بعد أن هزم الشاه إسماعيل الصفوي شيباني خان زعيم الأوزبك في الحرب التي دارت بينهم عام ١٥١٠ م بالقرب من مرو، و أرسل رأس شيباني خان إلى السلطان بايزيد مع رسالة تهديد، حيث يفهم أن العلاقات كانت حاضرة قبل ذلك. و هذه الهزيمة كانت سبباً قي تقوية العلاقات بين الدولتينحيث كان الصفويون عدوهما المشترك بعد غزوهم للأناضول.

و في عام ١٥١٤م أرسل السلطان سليم الأول رسالة باللغة الفارسية إلى كوج كونجو خان حاكم سمرقند، ثم رد حاكم سمرقند الرسالة مظهراً فيها نواياه الحسنة تجاه الدولة العثمانية و أنه سيتفق معها في كل الأحوال.

و من الأوقات التي تكثفت فيها العلاقات العثمانية الأوزبكية تلك الفترة التي شهدت النزاع على العرش بين حاكم الأوزبك نظير خان، و ابنه عبدالعزيز خان، حيث اضطر نظير خان عام ١٦٤٢ م إلى ترك العرش لابنه الذي كان ينازعه، و لكن بعد فترة أراد الرجوع إلى عرشه، فأرسل رسولاً من عنده يدعى عبدالمنان إلى السلطان محمد الرابع يطلب منه العون و ذلك عام ١٦٤٨م، حيث أوضح في رسالته أن الضعف ساد الإدارة في مدن توران، و انتشرت المظالم و خربت المدارس، و في ذلك يطلب العون من السلطان، حيث أخذ الأمر بجدية، و أرسل رسالة لعبدالعزيز خان و طلب إصلاح الأمر بينه و بين أبيه.

أما عن التكية الأوزبكية في اسكدار باسطنبول، فقد بنتها الدولة العثمانية في أواسط القرن الثامن عشر الميلادي، بعد طفرة في العلاقات العثمانية الأوزبكية،

التكية الأوزبكية في اسطنبول

التكية الأوزبكية في اسطنبول

بنيت لإيواء الحجاج و الدراويش و المسافرين القادمين من أواسط آسيا بشكل عام و أوزبكستان بشكل خاص. كان الحجاج القادمون من تركستان يمرون في طريقهم إلى الحج باسطنبول و يقيمون بها فترة قصيرة، و يصلون الجمعة مع السلطان، و يزورون قبر أبي أيوب الأنصاري، ثم يستأذنون السلطان بشكل رمزي في الذهاب إلى مكة، و سبب اختيار تلك المنطقة أن الحجاج الأوزبك كانوا يعقدون خيامهم في سلطات تپه سي باسكدار، لذلك أمر السلطان محمود الأول ببناء تلك التكية في ذلك المكان.

تبلغ مساحة التكية ١١٩٠ متراً مربعاً ملحق بها حديقة مساحتها ١١٥٧٠ متراً مربعاً بها حوض مياه و صهريج و بئر و مطبخ و كانت تعرف بقلندري خانه، و مقبة مساحتها حوالي دونم و نصف، مدفون بها عدد من نساك الطريقة النقشبندية من الأوزبك، و تتكون التكية من حرملك بثلاث طوابق، و سلاملك من طابقين، و مسجداً بأبعاد ٦ X٧،٥ م.

يقول إسماعيل إيوانسراي أن التكية أسست عام ١٧٥٣ م على يد عبدالله باشا والي مرعاش، و أول شيوخها هو الحاج خواجه عبدالله أفندي، و أوقفها للطريقة النقشبندية، و أصبحت مقراً لها، و تولت الدولة العثمانية جميع مصاريف التكية، كما كان شيوخها يتولون أمور المواريث التي يخلفها الأوزبك المتوفون في اسطنبول و ما جاورها، حيث تحفظ في بيت المال و من ثم تسلم لورثته حين يطالبون بها.

ولم يقتصر در التكية على الجانب الروحي فقد كانت مدرسة في الفنون اليدوية و الصناعية، فيذكر أن الشيخ محمد صادق افندي هو من أدخل فن الابرو إلى اسطنبول حيث تعلمه في بخارى، و علمه لإبراهيم أدهم افندي، و عدد من الأشخاص في التكية و من ثم انتشر في اسطنبول.

كما برع إبراهيم أدهم افندي في الخط و النقش و النجارة و الطباعة و غيرها، حيث لاقت السجاجيد التي نسجها اهتماماً واسعاً في المعرض الدولي الذي اقيم سنة ١٨٦٣ في اسطنبول. كما حصل إبراهيم افندي عى ميدالية من معرض باريس الدولي عن الموتور الذي اخترعه و يعمل ببخاري الماء، كما حصل على شهادة تقدير من ألماني على آلة أخرى صنعها، و هناك اتفاق في تركيا أن إبراهيم افندي هو أول من طور آلة تعمل بالبخار، أضف إلى ذلك براعته في الرمي، و إجادته للغات الفارسية و العربية و الجغطائية و الأرمينية و الأوزبكية و الأذرية لدرجة تمكنه من نظم الشعر بها.

عين إبراهيم افندي مديراً لمكتب الصناعات في اسطنبول عام ١٨٦٩، و تخرج على يديه الكثير من الطلاب، و لا تزال الآلات التي ابتكرها الشيخ محفوظة في التكية حتى الآن، كما أعجب السلطان عبدالحميد بمهارته في النسيج التي تعلمها من شيخ هندي زار التكية، فعهد إليه بنسج كل سجاد القصر، و من ثم عين إبراهيم افندي قائداً على المركب الهمايوني في اسكدار أثناء الحرب العثمانية الروسية عام ١٨٧٧-١٨٧٨.

كانت التكية الأوزبكية في عهد إبراهيم افندي مدرسة علمية فنية، و كانت ملتقى الكثير من العلماء أمثال صالح زكي بيك، و الفيلسوف رضا توفيق، و الخطاط سامي افندي و نجم الدين أوقياي، عوضاً عن المثقفين الأوزبك و الجغطائيين، حيث ألف الشيخ سليمان البخارى الوافد إلى اسطنبول عام ١٨٤٧ المعجم المسمى “لغات جغطائي و تركي عثماني” و الذي تولى مشيخة التكية لاحقاً، و لم تكن الدولة العثمانية تمنح الجنسية للتركستانيين إلا بعد سؤال شيخ التكية عنه.

كان للتكية الأوزبكية في حرب الاستقلال دور هام، حيث كانت محطة للجنود الذاهبين من اسطنبول للأناضول، كما عملت على استضافة الجنود الجرحى و مداواتهم، و مركزاً للاتصال بين الجنود و عائلاتهم، و كان شيخ التكية الشيخ عطا من أوائل من أسس جمعية المخافر التي كانت مهمتها التصدي لجنود الاحتلال الغربيين، و كان يسير بين العلماء و الأهالي و الأناضول لحثهم على القتال في حرب الاستقلال، و سعى في إزالة الخلاف الذي حصل بين مصطفى كمال و أنور باشا الذي كان يحارب مع التركستانيين ضد الروس، حيث ذهب إلى تركستان عام ١٩٢٠ لمقابلة أنور باشا و مكث هناك ثلاث سنوات بعد أن أمن مساعدات مالية كبرى.

أغلقت التكية عام ١٩٢٥ مع بقية التكايا في اسطنبول، و لكن الشيخ نجم الدين افندي توفي عام ١٩٧١ و يقتصر دور التكية حالياً على بعض الاحتفالات و الموالد و مراسم الطريقة اليسوية، كما تطهى فيها الأكلات الأوزبكية.

أما عن العلاقات الأوزبكية التركية فقد وقفت تركيا إلى جانب تركستان بعد استيلاء الروس عليها، حيث ذهب أنور باشا قائد الجيش العثماني و وزير الحربية السابق لقيادة الثوار التركستانيين ضد الروس عام ١٩٢٠ و لكنه استشهد بعد ذلك بسنتين، كما يذكر كمال صبحي بيك الذي أرسله مصطفى كمال إلى تركستان لتأسيس الاتحاد القومي التركستاني في طاشكند، و بالمقابل أرسل الأوزبك إلى الأتراك حوالي ١٠٠ مليون روبل من ميراث أمير بخارى إلى تركيا لمساعدتها في حرب الاستقلال، استولى الروس على معظم هذه الأموال و لم يصل منها إلا حوالي ١١ مليون روبل، و ممن يذكر من التركستانيين الذين هاجروا أو زاروا تركيا في تلك الفترة صادق عاشو أوغلو و عثمان خوجه و عبدالرؤوف فطرت، و افتتحوا في اسطنبول فرعاً لمدرسة تربية الأطفال و التي افتتحوها في بخارى من قبل، حيث عملت على تدريس الأطفال التركستانيين، و من ثم إرسالهم إلى تركيا و ألماني لتحصيل العلوم العليا، حيث أرسلت في عام ١٩١١ حوالي ١٥ طالباً و في العام التالي ٣٠ طالباً.

و في عام ١٩٢٥ اجتمع زكي وليدي طوغان في اسطنبول مع رجالات تركستان المقيمين هناك و قرروا بدء النضال السياسي من أجل تحرير تركستان، حيث بدؤوا بنشر مجلة باسم “تركستان الجديدة” أو “يني تركستان” باللغة التركية عام ١٩٢٧، و تبعها تأسيس “اتحاد الشباب التركستاني” الذي لا يزال موجوداً إلى هذا اليوم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلاً عن كتاب الحوار العربي التركي حول قضايا الإسلام في آسيا الوسطى من إعداد د/مجدي زعبل

في استخدام لقب بيگ عند الترك

أفريل 3, 2013
ميرزا أولوغ بيگ حفيد الأمير تيمور و الفلكي الشهير، شعار مطعم البيك، و أخيراً ألماز بيك رئيس جمهورية قيرغيزستان.

ميرزا أولوغ بيگ حفيد الأمير تيمور و الفلكي الشهير، شعار مطعم البيك، و أخيراً ألماز بيك رئيس جمهورية قيرغيزستان.

تعتبر كلمة “بيگ” واحدة من الكلمات الأساسية التي تساعد على فهم الطبقات الاجتماعية في المجتمع التركي و طبقاته الارستقراطية، و تحتل الكلمة بجميع اشتقاقاتها مكانة مهمة في الألفاظ المشتركة بين الشعوب التركية. و تختلف استعمالات هذه الكلمة بين كونها لقباً لسادة القوم، أو كلمة تستخدم لمناداة بعض الأقارب أو حتى لشخص مجهول.

لن يبحث هذا المقال في أصل كلمة بيگ و التي نسبها البعض لأصول فارسية أو حتى صينية، و إنما في حقيقة أن هذه الكلمة عاشت بين الترك أكثر من ألفي سنة، و دخلت إلى العديد من اللغات من باب اللغة التركية. و بتجلى ذلك من خلال البحث في أقدم المخطوطات التي كتبت باللغة التركية، و استخدمت هذه الكلمة في الدلالة على رئيس المجموعة، أو رئيس القبيلة أو العشيرة و من ينوب عنه، و يمكن الدلالة على هذه الكلة بما يماثلها في العربية “أمير” أو بالفارسية “ميرزا”.

يمكن حصر استعمال هذه الكلمة عند الترك في المجالات التالية.:

  1. استخدمت كلمة بيگ كصفة لحكام و قادة الدولة “الخان”.

  2. استخدمت أيضاً في القادة الأقل مكانة من الحاكم كشيوخ القبائل.

  3. استخدمت لمناداة النبلاء كالأمراء و قادة الجيش.

  4. استخدمت الكلمة لمناداة أصحاب الشأن من أفراد المجتمع.

  5. استخدمت أيضاً كلقب لأصحاب المناصب العليا في الدولة و الجيش.

  6. كما تستخدم في مناداة بعض الأقارب.

  7. و تستخدم كلمة بيگ في اللغة التركية الحديثة اليوم كطريقة مؤدبة للمناداة أو التخاطب.

يؤشر عدد الاستخدامات لهذه الكلمة إلى عدد التفرعات لهذا اللفظ، و هذا ما يهدف إليه البحث من خلال التعرف على تلك التفرعات و الاشتقاقات في اللغة التركية القديمة و في العصور الوسطى، و من بين حوالي ٥٠ اشتقاقاً لهذه الكلمة، اختيرت بعض منها هنا لشرحها  و بيان استخداماتها:

إيلليگ بيگ

و تطلق على الحاكم،  و وجد هذا اللفظ في المخطوطات البوذية و المانوية “إيلليگ بيگلار: السادة الذين يحكمون أوطانهم” و يتكون هذا اللفظ من “إيل” و معناها “القبيلة” و النسبة “ليگ” و أخيراً كلمة بيگ.  و نرى هذا اللفظ يتكرر أيضاً في المخطوطة العظيمة في العهد الإسلامي “قتادغو بيليگ”، حيث ورد أكثر من ثمانمئة مرة.

إيلچي بيگ

يمكننا التعرف أكثر على معنى هذا اللفظ من خلال “قوتادغو بيليگ” حيث يدل على موظف إداري، أو مدير أو متنفذ حيث يقول

aya ilçi begler ilig kolsa sak, bu saklık bile sen tozü

ilge bak

  أيا إيلچي بيگلار إيليگ كولسا ساك، بو ساكليك بيلا سن توزو إلگه بك.

أو بما معناه “يا حاكم البلاد، إن كنت تريد أن تحمي مملكتك، خذ احتياطاتك في جميع أنحاء مملكتك”.

أما الوثائق الموجودة في تورفان باللهجة الأويغورية  فتدل على استخدام هذه الكلمة في المكاتب الإدارية في القرنين الثالث عشر و الرابع عشر الميلاديين.

بيگ إيشي

و هذه اللفظة تستخدم فقط من قبل الموظفين الرسميين و تعني “زوجة القائد”، و كان من الطبيعي أن ترافق الزوجة زوجها القائد في رحلاته و مهماته الرسمية، لكن من غير الواضح إن كان لها تأثير في قراراته أم لا. و توجد العديد من الأمثلة على نصوص تحتوي هذا اللفظ في العهد البوذي للدولة الأويغورية، يمكن الاطلاع عليها في الملف الأصلي.

بيگ إچ

يقول محمود الكاشغري “مؤلف ديوان لغات الترك” أن كلمة بيگ إج تدل على البيگ “الصغير” أو الأمير، أو ولي العهد. و هذه الكلمة موجودة في العصر الحديث  في العديد من اللهجات للغات التركية  لكن بمعان مختلفة، ففي القازاقية تعني أخت الزوج الصغيرة، و في التترية أخت الزوج عموماً، أما في الأوزبكية فهي زوجة الرجل ذو المنصب، أو طريقة مؤدبة لمناداة امرأة .

بيگم

و هذه من الكلمات التي شاع استخدامها حتى وقتنا الحاضر، فهي مكونة من مقطعين: الأول “بيگ” و الآخر الميم و هي للنسبة في اللغة التركية، و تعني “سيدي”،  و استخدمت في العصور القديمة للرجال فقط، و لكن تطور الأمر فصار استخدامها يشمل النساء، و كانوا يخاطبون بها زوجاتهم، و ذلك في الطبقات النبيلة فقط. و يستشهد بذلك أن بابرشاه في كتابه بابرنامه  يذكر أن أباه كان يطلق هذا اللفظ على النساء من العائلة التيمورية. و بذلك انتقل هذا اللفظ من تركستان إلى الهند مع الدولة المغولية، فصار يطلق على زوجات النبلاء هناك أيضاً، أما اليوم فهذه الكلمة تستخدم في الپاكستان كمرادف لكلمة “سيدة” أو المرأة المتزوجة، فصارت جميع طبقات الشعب تستخدمها بغض النظر عن مستواهم الاجتماعي.

رابط المقال الأصلي

البخاريون و الحج قبل مئة عام، من تقرير الضابط عبدالعزيز دولتشين.

ديسمبر 22, 2012

عبدالعزيز دولتشين، هو ضابط في الجيش الروسي أيام الإمبراطورية الروسية، من أصل تتري، ولد عام ١٨٦١ لعائلة من النبلاء، فقد تقلد والده مناصب عسكرية قيادية مهمة، و تبعه عبدالعزيز فانخرط في السلك العسكري و ساعدته ثقافته الواسعة و إجادته للغات العربية و التركية و الفارسية و الانگليزية و الفرنسية، بالإضافة إلى اللغتين التترية و الروسية على التدرج بسرعة خاطفة في السلكين العسكري و الديبلوماسي، و لكن طبيعة عبدالعزيز لم تكن تلك التي ترغب في المناصب الهامة، فانتقل من بطرسبرغ و هي عاصمة الإمبراطورية الروسية آنذاك إلى قرية تسمى قره قلعة “القلعة السوداء” في أطراف عاصمة تركمانستان عشق أباد و خدم في تلك المنطقة سبع سنين تشرب خلالها ثقافة أهل تلك المنطقة و و عرف قضاياهم التي تشغلم و أتقن لهجتهم و تعلم تراثهم و فلوكلورهم، و خلال خدمته في تلك المنطقة التقى برئيس مقاطعة ما وراء قزوين كوروباتكين، الذي صار فيما بعد وزيراً للحربية،الض فرشحه الوزير للقيام بمهمة استطلاعية للإمبراطورية الروسية لمعرفة ماهية الحج، و هل تشكل تلك التظاهرة خطراً على روسيا، و تقبلها عبدالعزيز بسعادة، و اعتبر أن ذهابه إلى الحج على نفقة الدولة و بتكليف رسمي إنما هو فرصة العمر لأداء تلك الشعيرة و خدمة مسلمي الإمبراطورية الروسية.

يفصل الضابط عبدالعزيز في رحلته عام ١٨٩٨ الأحداث و يورد عدداً من التقارير عن طرق الذهاب للحج و الظروف المحيطة بها، و حالة وسائل المواصلات في تلك الفترة، و أوضاع المحاجر الصحية، و طريقة تعامل أهل كل محطة مع الحجاج، و يورد تفاصيل عن حالة الحجاز في تلك الفترة، و عن سكان جدة و مكة المكرمة و المدينة المنورة، و عن من قابلهم و التقى بهم، و عن الأحداث المهمة التي وقعت أثناء حجه، كذلك الحالة الأمنية و الصحية التي تواجه الحجاج في رحلتهم المقدسة للحجاز، و لكن ما يهمنا هنا هو لقاؤه بأبناء تركستان، و الذين اتخذوا الحجاز موطناً منذ تلك الأيام، و كذلك عن أحوال الحجاج التركستانيين و أعدادهم و مطوفيهم، دون الضابط كل ذلك في تقرير رفعه إلى الحكومة الروسية، و ترجمه “يفيم ريزفان” إلى العربية و أسماه “الحج قبل مئة سنة: الصراع الدولي على الجزيرة العربية و العالم الإسلامي، و يمكنكم تحميل الكتاب على هذا الرابط.

عبدالعزيز دولتشين “المصدر”

يذكر الكتاب أن الحجاج القادمين من الإمبراطورية الروسية كانو يسلكون إحدى ثلاث طرق:

١- من منطقة ما وراء القفقاز “أرمينيا و جورجيا و أذربيجان” و شمال إيران إلى بغداد و النجف و كربلاء، ثم عبر الصحراء العربية إلى مكة و المدينة.

.٢- عبر سمرقند و بخارى و مزار الشريف و كابول و بيشاور ثم إلى بومباي ، ثم بحراً إلى جدة أو ينبع

٣- و من روسيا الداخلية و سيبيريا عبر أوديسا و سيباستوبول و باطوم ثم إلى اسطنبول و السويس إلى جدة و ينبع، و هذا هو الطريق الذي سلكه النقيب عبدالعزيز.

و يذكر النقيب عبدالعزيز ما كان يتعرض له الحجاج البسطاء غير المجربين من عمليات النصب و الاحتيال من أبناء جلدتهم على مر الطريق، و يذكر اسم شخصين من مواليد أنديجان و مرغلان يعيشان في بومباي، يوهمان الحجاج بأنهما وكلاء حجاج بخارى، فيوقعون الحجاج في عمليات شراء، و احتيال، و بيعهم بعض البضائع بعد إقناعهم بأنهم سيجنون بعض الأموال جراء بيعها في جدة، لكن الحجاج يكتشفون في جدة بأنها متوفرة هنالك و تباع بنفس الأسعار التي اشتروها بها، و ربما أرخص. و يسرد بعد ذلك بعض أسماء الأدلة و وكلائهم في مكة و جدة، فيذكر في تقرير القنصل الروسي عام ١٨٩٣في جدة أن السيد محمود علي شكري و وكيله محمود غيرتلي هو دليل الحجاج من أنديجان، و السيد علي بيرينجي هو دليل الحجاج من أوش، و السيد محمد كوشك و وكيله محمد جان هو دليل حجاج بخارى و سمرقند و طاشقند و مرغلان و خوجند، أما وكيل حجاج نمنگان هو السيد سيد عبدالقدير الداغستاني.

كما فصل أعداد الحجاج حسب المدن التي أتو منها فهناك ٤٥٦ حاجاً من أنديجان و ٢٤٢ من قوقند، و ٣٥٢ من مرغلان، و ٢٠٤ من نمنگان و ٤٦ من التتر و ١٧٩ من بخارى، و غيرهم كثير، كما تبين أن الغالبية العظمى منهم من المشتغلين بالزراعة، أما قشقر، فلم يحص الكاتب منهم سوى عشرين حاجاً.، و حسب النقيب دولتشين، فإن التعقيدات البيروقراطية التي ترافق إجراءات الحصول على جوازات روسية، فإن الحجاج القادمين من الإمبراطورية الروسية يفضلون استخراج جوازات سفر تركية أو فارسية و حتى استعمال الجوازات البخارية القديمة أو الحصول على جوازات صينية.

يصف الكاتب سكان مكة المكرمة بأنهم “خليط مبرقش من أبناء جميع القوميات التي تدين بالإسلام”، حيث يوجد الماليزيون و الزنوج و الأحباش و المصريين و الهنود و العرب و الأفارقة و الأتراك بالإضافة إلى السرت “الأوزبك” و الفرس و التتر و غيرهم. و ينقل الكاتب بأن أغلب أبناء القوميات الغير عربية في مكة يشتغلون إما بالتجارة أو نظار للأوقاف التي تخص قومياتهم. أما في المدينة المنورة فلاحظ الكاتب أن عدد العرب أقل مما هو في مكة، ، و أحصى بضع مئات من السرت “الأوزبك” الذين يشتغلون في الحرف المختلفة، رغم وصفه لهم بأنهم “غير ماهرين”. أما التتر فكان في المدينة في ذلك الوقت “١٨٩٨-١٨٩٩” حوالي ٣١ عائلة يرأسها السيد عبدالستار، الذي قدم إلى المدينة المنورة منذ أربعين سنة من أستراخان. نزح غالبيتهم بسبب الاضطرابات التي جرت في بلادهم عام ١٨٩٢، و أتى بعضهم للدراسة، حيث تزوجوا و استقروا في المدينة النبوية.، و جزء لا بأس به من دخلهم يتأتى من خدمتهم للحجاج الآتين من تلك الديار، و من الملاحظ شيوع تقاضي المال مقابل القيام بالحج بالنيابة عن غير القادرين جسدياً، أو ما سماه الكاتب بالبدل. و يذكر الكاتب أن بعض سكان المدينة من التتر لا يتأقلم مع الجو، فيتوفون نتيجة الحر و الجهد الشديد، و إذا توفيت زوجة لأحدهم تكلف العناء و المشقة للسفر مرة أخرى إلى تترستان والزواج بامرأة من قومه على الزواج من امرأة عربية من المدينة، لأنهم و بحسب رأيهم “مفرطات في تطلباتهن و متقلبات الأهواء”.

أما عن تكاليف الحج في ذلك الزمان فيقدرها الكاتب بـ٣٠٠ روبل روسي في حال الحج المفرد دون تكاليف الحجر الصحي أو زيارة المدينة النبوية، أما إذا أراد الحاج زيارة المدينة فتكلفه الرحلة ٥٠٠ روبل، و بالمجمل يحمل الحاج معه حوالي ١٠٠٠ روبل روسي ، يبقي مثلها مع أهله حتى يؤمن قوتهم و مصاريفهم إلى حين عودته، فيكون المجمل ألفا روبل روسي. و يبدأ الاستعداد للرحلة قبل عام من السفر، حيث يكلفون أحد الأقارب بالقيام على شؤون المنزل في غياب صاحبه، و يتخلص من جميع ديونه، و يكتب الحاج وصيته. أما الأغراض التي يحملها الحاج معه فمن أهمها السماور، و آنية الشاي و لوازم الطبخ، عدا أرغفة الخبز المجففة، و العنب الأسود المجفف، أما القيرغيز فلا يستغنون عن لحم الخيل المملح، أصناف السجق، و جبنة الغنم.

فرمان من أمير بخارى بتكريم الضابط عبدالعزيز دولتشين.

فرمان من أمير بخارى بتكريم الضابط عبدالعزيز دولتشين.

أما في ملاحق الكتاب فيروي الحاج “عيشايف” في زيارته لجدة و خصوصاً مقبرة أمنا حواء، وجود قبر القنصل الروسي التركستاني الأصل “شاهيميردان ميرياسوفيتش ابراهيموف” حيث عين قنصلاً في جدة عام ١٨٩٢ و توفي في نفس العام من وباء الكوليرا، و وضع على قبره شاهد كتب عليه العربية و الروسية. أصيب ابراهيموف بالكوليرا بعد وصوله إلى جدة و ذهابه مع زوجته إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، و في طريق عودته إلى جدة اعتلت صحته ، توفي بعد أن خذله طبيبه و تركه مع خادميه في أحد المقاهي قبيل وصولهم إلى محطة “حدة” و هي محطة في منتصف الطريق بين مكة المكرمة مدينة جدة. و يذكر الحاج عيشايف أن القنصل كان يعمل بجد و إخلاص لخدمة الحجاج القادمين من الإمبراطورية الروسية، خصوصاً ضد المحتالين و النصابين الذين يترصدون للحجاج السذج.

أدهش الحاج عيشايف المطوف الذي كان قائداً لحملتهم الشيخ المكي محمد علي سروجي، الذي يجيد التركية و الروسية بالإضافة إلى لغته العربية، حيث سجن في طشقند لمدة عامين لعدم وجود وثائق معه أثناء تنقله في تلك البلاد ، و يصفه بأنه “شيخ محترم و كثير الكلام”، تفاجأ بأنه لا يعرف الحجاج فقط، و إنما جميع التجار و الأغنياء المعروفين من التتر، عدا عن الايشانات “المتصوفين” و الملات “جمع ملا” في تلك النواحي. و يقول الحاج عن نفسه “فأنا المقيم في تركستان لا أعرف الكثير من التتر المحليين، بينما هو يعرف الجميع!” و يعزو ذلك إلى أن الشيخ محمد علي سروجي يملك مجلدات بأسماء الكثير من مسلمي روسيا، و يتراسل معهم كثيراً.

الكتاب غني بالتفاصيل و الحكايات التي لا يمكن سردها هنا في مقالة موجزة، و لكن مثل هذه الكتب تعطينا صورة عن ما كان عليه الحج في ذلك الوقت و عن أوضاع المسلمين بصفة عامة و التركستانيين بصفة خاصة، كما تعطينا بعض الشواهد الحسية لتاريخ البخاريين في الحجاز، فيمكن مثلاً البحث عن المنحدرين من عائلة السيد محمد علي سروجي، و البحث في مجلداته إن كانت موجودة عن قوائم و أسماء الحجاج الآتين من تركستان في ذلك الزمان. أنصح بتحميل الكتاب و قراءته، مع وجود بعض الأخطاء الإملائية نتيجة الترجمة من اللغة الروسية للعربية، خصوصاً في أسماء الأشخاص أو الأماكن و القبائل.

عود على بدء: البخاريون…من هم؟

ديسمبر 12, 2012

بدأت هذه المدونة في العشرين من سبتمبر من عام ٢٠٠٩، و كان أول مقال لي فيها هو “البخاريون…من هم؟” و لاقى هذا المقال أصداء واسعة، و لا يزال هو و مقال الطعام البخاري من أعلى المواضيع زيارة في المدونة و التي بحمدالله تجاوزت أكثر من ثمانين ألف زيارة في ثلاث سنوات و نيف، أي أكثر من سبعين زيارة يومياً. خلال تلك الفترة انتشرت بعض المقالات التي كتبتها و ذاع صيت المدونة بين البخاريين و الحمدلله. و تجاوز عدد التعليقات الألف و الثلاثمئة تعليق على ٦٣ مقالة، و نرى في الصورة أدناه مصادر الزيارات من جميع أنحاء العالم، من الإكوادور، و كمبوديا و السنغال و بولندا و جيبوتي و رومانيا و سويسرا و تايلند و اليابان و تركيا و ماليزيا و لتوانيا، و موقعي محظور في الصين الشيوعية.

الزيارات من دول العالم

الزيارات من دول العالم

كان منهجي منذ اليوم الأول هو التوضيح الصريح للمقالات المنقولة و ذكر المصادر ما أمكن، و لم أنسب يوماً لنفسي ما لم تخطه يداي. لاحظت أن بعض المقالات تنقل من مدونتي من غير ذكر المصدر، و كان ذلك لا يشكل أي معنى لي لكوني سعيداً بانتشار المقالات، و الباحث المجتهد سيعرف مدونتي و ما أكتب. لكن ما أثار حفيظتي هو تطفل البعض على مقالاتي بصورة فظة و عديمة التأدب بنسبة تلك المقالات إلى أنفسهم و انتشارها في وسائل الاتصال من البرودكاستات في الواتس آب و غيرها و فوق ذلك نشرها في أكثر من موقع بأسمائهم الصريحة. صارحت واحدة من هؤلاء و المدعوة رزان البخاري فأنكرت أنها نسخت المقالة و ادعت أن مجموعة من معارفها ساعدوها في كتابة تلك المقالة، فقلت هذا حسن لأنها اعترفت بأنها لا تستطيع أن تكتب مثل تلك المقالة من غير مساعدة، لكن ما لم يتقبله عقلي هو أنهم ساعدوها في كتابة هذه المقالة خصوصاً أني أعرف بعضهم فمنهم الفنان و أستاذ الجامعة و العسكري الشريف، و لا يعقل بأن هؤلاء الأشخاص الثلاثة المساكين و التي حشرت أسماءهم في سرقتها اجتمعوا على أن يزوروا مقالتي حرفاً بحرف، إلا إن كان ذلك ما حدث فعلاً، و لكن في مخيلتها المريضة.

ردها على رسالتي في الفيس بوك

ردها على رسالتي في الفيس بوك

ما تبقى هنا هو أن هذه المرأة يبدو أنها اعتادت على النسخ و اللصق بطريقة جعلت منها تصدق تماماً أنها كتبت ما نسخت و لصقت، فبعد مقالي الذي نشرته باسمها في مجلة دنيا الرأي الالكترونية على هذا الرابط ، و قع موقع تركستان ويب في ذلك الفخ أيضاً

المقال المسروق

المقال المسروق

يبدو أن ذلك عادتها، فعلى نفس الموقع نشرت مقالاً بعنوان “احتفظ بحلمك” في عام ٢٠١١تبين بعد البحث أنها مقالة منسوخة من عدة منتديات منها هذا المنتدى الذي نشرها في عام ٢٠١٠. و نشرت أيضاً في موقع سيريانيوز مقالة بعنوان “قصة وحكمة.. الثعبان وعقد اللؤلؤ” في مارس عام ٢٠١١ و روستها بتوقيع “بقلم رزان باي أوغلو البخاري”، ليتبين أنها منشورة قبل ذلك في منتدى آخر في شهر نوڤمبر ٢٠١٠.

فلا يبدو أنني الضحية الوحيدة لهذه المرأة ذات الشخصية الغريبة، و التي تعتمد السرقة الأدبية أو ما يسمى في اللغة الانگليزية بالـ Plagiarism، و هي جريمة خطيرة يعاقب عليها  القانون في الدول المتقدمة فكرياً، و تصل لحالة الطرد من الجامعة إذا قدمها الطالب في بحثه من غير الرجوع و الإشارة إلى المصادر الرئيسية.

ـأكتب هذا المقال بعد انقطاع عن الكتابة في المدونة قارب العام، ارتبطت فيها بأفضل من يمكن أن تسميها شريكة حياة، و استمريت في الدراسة الليلية لبرنامج الماجستير في جامعة الملك فهد للبترول و المعادن، فانشغلت قليلاً عن القراءة و البحث في المواضيع التي تختص بتركستان. سأعود قريباً إن شاء الله.

دور الطعام في العادات الأوزبكية

ديسمبر 27, 2011

هذا المقال مترجم من مقال للباحثة “ج. ش. ذوالنونوفا” من معهد التاريخ في أكاديمية العلوم بجمهورية أوزبكستان، و من نشر معهد الثقافة و التنمية الآسيوي.

ارتبطت بعض الأطعمة في حياة الشعب الأوزبكي ببعض المناسبات الإجتماعية كالزواج و العزاء و الحمل و ما إلى ذلك، أو في بعض التواريخ المعتبرة خلال السنة كالأعياد و المناسبات الدورية. و تتراح عادات الطعام ما بين طبق معين إلى عدة أطباق تعد مرغوبة، أو في حالات حتمية لهذه المناسبة. و ارتبطت طريقة طبخها و أكلها ببعض المسلمات الإجتماعية. و تختلف هذه المسلمات بحسب الأطباق المقدمة، و يتم اتباع العادات حرفياً  بالرغم من اختلافها في حدود شخصيات الحضور، أو قوة العلاقة بينهم، و نوع المناسبة.

و بعض العادات المرتبطة بالطعام لها جذور قديمة ربما يرجع بعضها للديانة الزرادشتية، و بالرغم من أن الإسلام لا يتفق كثيراً مع الزرادشتية، إلا أن بعض العادات تأصلت في المجتمع حتى باتت جزءاً منه، و لربما فسرها البعض بارتباطها بالدين الإسلامي بالرغم من أنها ليست منه. و طبخ الطعام و تبادله بين أفراد المجتمع يحدد الكثير من العلاقات المتبادلة سواءاً كانت دينية أم مهنية أو حتى في طبقات العمر.

و يعد طعام العرس من أهم و أعقد العادات في الحياة الاجتماعية، و له رمزية خاصة. ففي طاشكند يقدم الرز البخاري للعريس في طبق يسمى “لقن” و يتذوقه العريس، و يترك الطبق للعروس و صديقاتها ليأكلنه. و يبارك العريس الطبق الثاني لأصدقائه العزاب، و بذلك يكون قد أعطاه طاقة سحرية تجلب السعادة لأصدقائه و أصدقاء عروسه الغير متزوجين.

و في وادي فرغانة تقوم الخاطبات بسرقة أكواب أو أي نوع من أغراض المطبخ،و لا يعتبر ذلك شيئاً سيئاً، لأن أخذ الخاطبة لشيء من ذلك البيت يعني أنها تود بشيء من بركة و سعادة ذلك البيت. و ربما يرجع جذور هذا الاعتقاد إلى الاعتقاد بأن الطعام أو بعض أغراض المنزل من الممكن أن يؤثر على أحوال الناس.

و في أثناء أداء عادة “سلام” يقوم الطاشكنديون بغمس يد العروس في الزيت أو الدقيق، و ذلك تفاؤلاً بجعل يد العروس “ياغلي” و “أونلي” أو بمعنى آخر هو تفاؤل و تمني الغنى و السعادة للعروس. و هذه العادة الأوزبكية تنتشر أيضاً عند عدد من الشعوب الناطقة باللغة التركية، و في عادة أخرى يقوم بعض الأوزبك بها عند العرس، يقوم والدا العروس بوضع الدقيق على شفاههم إذا كانوا سعيدين بما قدمه أقارب العريس، و يقومون بوضع الرماد إذا كان الوضع غير ذلك.

و للخبز مكان خاص في العادات التي تسبق الزواج، فخلال “الفاتحة” يكون الخبز شعارا للترابط بين العائلتين، و رمزاً للموافقة بين الطرفين، و تقوم الخاطبات بكسر قطع مسطحة من الكعك و تقديمه للضيوف الجالسين على المائدة و تسمى هذه العادة “نان سانديريش” .

تساعد العادات على تخفيف بعض الضغط النفسي، و العادات المتعلقة بالطعام لا تحمل هذا المعنى في نفسها فحسب، و إنما يتواجد أيضاً في طريقة إعداد الطعام، و الأهم من ذلك أن التحضير و الاستهلاك لهذا الطعام مرتبطان أيضاً بالتواصل الاجتماعي و الحضور العائلي.

و من هذه الضغوط، الضغط النفسي عند فقد حبيب، و لذلك أيضاً عادات تتعلق بالأطعمة في العزاء، فمن غير المستحسن إيقاد النار في بيت الفقيد لتحضير الطعام في اليوم الأول من العزاء، و ربما يعود ذلك إلى بعض البقايا من الديانة الزرادشتية ، حيث يحرم فيها إيقاد النار بحضور الميت. و في بيت الفقيد لا يتم طبخ الطعام طيلة الأيام الثلاثة المخصصة للعزاء، و يتم توفير الطعام لأهل الميت من قبل الأقارب و الجيران. و في العزاء يعتبر “الهلويتر”  و هو عبارة عن دقيق و سكر محمران على الزيت، من الأطباق التي يتوجب عليها الحضور، حيث يعتقد أن الهلويتر يساعد على التخفيف من خطايا الميت، و له قدسية خاصة، و يجب أن يقدم الهلويتر ساخناً. أما السيدة المكلفة بطبخ هذا الطبق فيجب عليها التزام الصمت و عدم التحدث مع أي أحد كان، لأنه، و حسب الاعتقاد الشعبي، أن “السؤال و الجواب” للميت في قبره يحدثان في تلك اللحظة.

و لا يأكل أحد قبل الدفن، أما بعده فيقدم الشاهي مع الهلويتر للمعزين، و يشرع في طبخ الرز البخاري “البلو”، و في منطقة “مندان قشلاق” في وادي فرغانة يطبخون الرز الأسود “قرا أوش”.

و طبخ الرز البخاري لمدة أربعين يوماً له معنىً خاص، فالاعتقاد الشعبي يقضي بأنه ما دام الرز يطبخ، فالميت يظل في راحة و عافية من عذاب القبر، و بعد أن يؤكل الرز، يتم غسل قطعة من النحاس من قبل سبع نسوة، و أقرب واحدة منهن للميت تقوم بصب ماء ذلك الغسل في النبع أو الجدول، حيث يعتقد أن جسد الميت ينتفخ خلال التسعة و الثلاثين يوماً، و صب ماء ذلك الغسل في الماء الجاري يريح جسد ذلك الميت، أما إن لم تصبه بحذر و إتقان، فسيتعرض الميت لمزيد من الآلام و المعاناة.

و من المناسبات العديدة التي يطبخ فيها الرز البخاري مناسبتي “قور يكدي” و “ليلاك كيلدي”. و للرز قداسة عظيمة، و إكرام للنعمة، فالبعض يعتبر حبة الأرز كسن شخص مقدس، و لذلك يعتبر رمي بقايا الرز من عظيم الإثم. و قد تعامل الأوزبك مع الطعام خصوصاً التقليدي منه باحترام كبير، و هو من أساسيات الحياة الاجتماعية في الأفراح و الأحزان.  و هو طبق موغل في القدم، و هو طعام لكل الطبقات، الغنية منها و الفقيرة، و خاصة في المناسبات. و الدعوة لطبق من الأرز أصبح مرادفاً للضيافة و الكرم.

و يمكن تقسيم الطعام الذي يقدم في المناسبات إلى قسمين، الأول قسم لا يطبخ و لا يعرف إلا في مناسبات معينة، و يكون هذا الطعام متعلقاً بتلك المناسبة، و حضوره في تلك المناسبة حتمي لا مناص منه، و لذلك لا يمكن أن نجد هذه الأطباق في البيوت الأوزبكية في الأيام العادية، و من تلك الأطباق مثلاً الهلويتر و البغرسق. و النوع الآخر من الأطباق هو الطعام اليومي الذي يقدم و يطبخ في أي وقت، و لكن تصبح له مكانة خاصة و مزية في بعض المناسبات، و حضوره في بعض المناسبات مرحب به، و في بعضه الآخر لازم، و من هذه الأطباق الرز البخاري و القتلمة.

و في الحديث عن الطعام المقدم في المناسبات يلزم التحدث عن الأضاحي، فقد تجاوزت هذه العبادة الدينية كونها مرتبطة بمناسبة دينية إلى ارتباطها عند الأوزبك بعدة مناسبات اجتماعية. و يكون لهذه العادة غرضان هما طلب رضا الرب، و طلب دفع البلاء و الفقر عن الرجل و أهل بيته، و تعد الأضحية عن الشخص الميت في العائلة جزءاً أساسياً من تقاليد العوائل الأوزبكية، و قد يستغل البعض تلك العادة للبحث عن الجاه و التباهي أمام أهل “المحلة”.

و في طاشكند توجد عادة اسمها “خدايا” حيث، و تقام هذه المناسبة عند الإعداد للزواج، أو قبل الانتقال لمنزل جديد، حيث تقوم العائلات الغنية بذبح حصان، و من هم دون ذلك يذبحون جدياً، و من لا يستطيع ذلك يقدم “ديكاً” و عادة ما يكون لونه أسود. و تسمى هذه العادة “قان تشقاريش” ، و يجب أن يؤكل جميع اللحم من الحيوان أو الطائر المضحى به من غير أن يبقى شيء.

و للطعام أهمية خاصة في مناسبة المولد النبوي، فخلال المناسبة يتم إحضار خوان أو ما يسمى بالأوزبكية “دسترخان” و توضع عليه الفواكه و الشربيت الذي يوضع في إنائين مخصوصين لهذه المناسبة. و في نهاية المولد تشرب النسوة هذه الشراب تباعاً، و أثناء ذلك تقوم “أوتين أيي” أو السيدة التي لديها علم لا بأس به من الدين بقراءة شيء من القرآن، و تشكر الله و تحمده على هذه النعم. أما في منطقة مندان قشلاق في فرغانة فيقدم الأرز المغلي للحضور، إلى جانب الحليب المحلى، و الطعام الحلو و الحليب المحلى يرمز إلى أنهار و نعيم الجنة الذي يتمنونه لأمواتهم.

و من العادات القديمة عند الاعتناء بشخص مريض، طبخ “الشولة” و يتركونها عند الجدول “أرِق” لتأتي أرواح الأموات و تبارك هذا الطعام حتى تساعد في شفاء المريض، و لا تزال هذه العادة موجودة لدى كبار السن.

الشولة

و كان أهل الحي في السابق يجتمعون أيام الخميس و الأحد لعادة اسمها “إس تشيقاريش”، يطبخون فيها الرز البخاري، و يعتبرون رائحة اللحم و هو يطبخ هدية لأرواح الآباء، الذين يزورون أبناءهم في هذه الأيام و من يكرم الأموات بطبخ هذا الطعام، و ذبح الشياة يحصل على بركة و حماية الأرواح له.

و استخدام الطعام للتواصل الروحي مع الأموات لا يقف عند هذا الحد، فالقمح كان يستخدم في مراسم العزاء في عادة اسمها “دورة” حيث يعطى الحانوتي اثنين و ثلاثين كيلو غراماً من القمح ليدور حول منزل المتوفى على حصان، حيث يعتقد أن في ذلك تخليصاً للميت من ذنوبه، و كانت هذه العادة موجودة حتى الثلاثينات من القرن الماضي. و استبدلت بعادة أخرى حيث يعلق كيس صغير من الأرز على شجرة مثمرة، حيث استبدل القمح بالأرز، و هذه العادة اختفت و لا توجد سوى في ذاكرة كبار السن.

و بذلك نرى مدى تغلغل الطعام و دوره في المناسبات و العادات الاجتماعية، و لها دوافع مختلفة كالتواصل مع الأموات، أو تعزيز الترابط بين أبناء المحلة، و كذلك مساعدة الفقراء و الأرامل، و كل ذلك يدور حول الطعام.